أبدت بعض التنظيمات الإرهابية التي تنتشر في بعض دول المنطقة، خاصة دول الأزمات، اهتمامًا خاصًّا بالتراجع الملحوظ في قدرات تنظيم "داعش" على المستويات المختلفة خلال الفترة الأخيرة، بعد فقدانه بعض المناطق الرئيسية التي كان يسيطر عليها في العراق وسوريا، فضلا عن خسارته كثيرًا من مقاتليه بفعل الضربات العسكرية التي يتعرض لها.
وقد بدا ذلك جليًّا بعد انطلاق عملية تحرير الموصل التي يُشارك فيها التحالف الدولي إلى جانب القوات العراقية وميليشيا "البشمركة" الكردية؛ حيث خسر التنظيم -وفقًا لتقديرات عديدة- ما يزيد على 1000 من مقاتليه في المواجهات المختلفة، كما أنه اضطر إلى الانسحاب من بعض القرى والمناطق التي كان يسيطر عليها بسبب الضغوط التي تفرضها العمليات العسكرية التي تشنها تلك الأطراف ضده.
ومن دون شك، فإن معركة الموصل تكتسب أهمية وزخمًا خاصًّا من جانب تنظيم "داعش" وحتى التنظيمات الإرهابية الأخرى، نظرًا إلى أنها ربما تكون مقدمة للاستعداد للمعركة التالية، وهي تحرير الرقة، التي تمثل المعقل الرئيسي للتنظيم، بما يعني أن هذه المعركة سوف تفرض، في رؤية اتجاهات عديدة، تداعيات مباشرة ليس فقط على نفوذ "داعش" في تلك المناطق، وإنما أيضًا على علاقاته مع تلك التنظيمات التي تتراوح بين التحالف والتنافس.
تطورات متداخلة:
وفي ضوء ذلك، ربما يمكن تفسير قيام بعض تلك التنظيمات بتصعيد عملياتها الإرهابية في الفترة الأخيرة، في إطار حرصها على توجيه تهديدات للقوى المنخرطة في الحرب ضد الإرهاب، وذلك بالتوازي مع فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، فضلا عن تصاعد حدة معركة تحرير الموصل من تنظيم "داعش". ففي هذا السياق، أعلنت حركة "طالبان"، التي دخلت في صراع مفتوح على كسب النفوذ مع تنظيم "داعش" في أفغانستان، مسئوليتها عن محاولة اقتحام القنصلية الألمانية في مدينة مزار شريف، في 10 نوفمبر 2016، والتي أسفرت عن مقتل 7 وإصابة 128 آخرين.
كما شنت الحركة نفسها هجومًا انتحاريًّا ضد قاعدة "باغرام"، وهي أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في أفغانستان، في 12 من الشهر ذاته، وهو ما أدى إلى مقتل 4 أمريكيين منهم جنديان ومتعاقدان.
وبدا لافتًا ايضًا أن حركة "بوكو حرام" في نيجيريا، التي بايعت "داعش" في مارس 2015، سارعت إلى توجيه رسالة إلى ترامب، في 13 نوفمبر 2016، تشير فيها إلى أن "الحرب ما زالت في بدايتها"، وذلك بعد أن قامت الحركة في 28 أكتوبر 2016 بتنفيذ عمليتين انتحاريتين في مدينة مايدوغوري بشمال نيجيريا أسفرتا عن مقتل 9 وإصابة 24 آخرين.
حائط صد:
رغم أن الخلاف والتنافس ربما يمثل سمة رئيسية في العلاقة بين تنظيم "داعش" وبعض التنظيمات الإرهابية الأخرى، خاصة بعد نجاح الأول في استقطاب عدد من كوادر وعناصر تلك التنظيمات في الدول التي تنتشر فيها، على غرار أفغانستان ونيجيريا وغيرها، إلا أن ذلك لا ينفي أن بعض تلك التنظيمات ترى أن تنظيم "داعش" يمثل خط الدفاع الأول بالنسبة لها، بما يعني أن سقوطه أو تراجع قدراته بشكل كبير يمكن أن يفرض ضغوطًا قوية عليها، باعتبار أن ذلك سوف يدفع القوى الدولية والإقليمية المشارِكة في الحرب ضده إلى مواصلة جهودها لمواجهة تلك التنظيمات وإضعاف قدراتها تمهيدًا للقضاء عليها بشكل نهائي.
وبعبارةٍ أخرى، يمكن القول إنه رغم أن بعض تلك التنظيمات أبدت مخاوف عديدة إزاء تمدد "داعش" داخل المناطق التي تنتشر فيها، إلا أن ذلك لا ينفي أنها استفادت من هذا التمدد، باعتبار أنه أدى إلى توجيه اهتمام القوى المعنية بالحرب ضد الإرهاب نحو "داعش" الذي أصبح مصدر التهديد الرئيسي لأمنها ومصالحها، خاصة في ظل قدرته على نقل عملياته الإرهابية إلى خارج منطقة الشرق الأوسط.
وبالطبع، فإن تأكيد بعض المسئولين في الدول المشاركة في الحرب ضد الإرهاب، على أن العمليات العسكرية ربما لن تقتصر على تنظيم "داعش" فقط، دفع تلك التنظيمات إلى رفض تلك الحرب وتوجيه انتقادات بل وتهديدات إلى الدول المشاركة فيها، بالتوازي مع اتجاهها إلى تقديم دعم معنوي للتنظيم وتوفير غطاء شرعي له من خلال تجنب إدانته، في إطار ما يسمى بـ"الإقرار السكوتي".
تداعيات متعددة:
ربما يمكن القول إن تراجع نفوذ تنظيم "داعش" في العراق وسوريا يمكن أن يصب -نظريًّا- في صالح تنظيم "القاعدة" وفروعه المختلفة في بعض الدول، وذلك لاعتبارين: يتمثل أولهما، في أن التنافس كان السمة الرئيسية للعلاقات بين الطرفين بسبب نجاح الأول في استقطاب بعض مقاتلي الثاني، ودفعهم للانشقاق عليه، وتكوين جماعات إرهابية تابعة له في المناطق التي يسيطر عليها.
وينصرف ثانيهما، إلى أن تراجع نفوذ وقدرات "داعش" واضطراره إلى الانسحاب من المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا ربما يدفع بعض مقاتليه إلى العودة للانضمام للتنظيم الرئيسي، خاصةً أن فشل التنظيم في الحفاظ على تلك المناطق التي انتشر فيها منذ منتصف عام 2014 يعني أن الأفكار التي تبناها ونجح في استغلالها لاستقطاب عدد كبير من المتعاطفين معه لم تحقق أهدافها.
لكن ذلك لا ينفي -في الوقت ذاته- أن تنظيم "القاعدة" يبدي قلقًا ملحوظًا تجاه التداعيات المحتملة التي يمكن أن يفرضها تراجع نفوذ "داعش"، خاصة أن بعض التيارات الرئيسية داخل التنظيم ترى أنه ربما يكون الهدف التالي بعد تقليص نفوذ "داعش"، وطرد مقاتليه من المناطق التي يسيطر عليها.
شروط مختلفة:
ومن هنا، فإن هذه التيارات ترى أن الخيار الأفضل بالنسبة لها هو بقاء تنظيم "داعش" لأطول فترة ممكنة في العراق وسوريا لكن دون أن يمتلك القدرات السابقة التي جعلته يحتل صدارة التنظيمات الإرهابية في الأعوام الأخيرة، وهي المكانة التي حظي بها "القاعدة" في الفترة السابقة على ظهور "داعش"، بالتوازي مع انهيار مجموعاته الفرعية التي أسسها في بعض الدول على غرار أفغانستان ونيجيريا، خاصة أن تلك المجموعات شكلت تهديدًا مباشرًا لنفوذ "القاعدة"، بما يعني أن التخلص منها يزيد من قدرته على إعادة الانتشار في المناطق التي سيطرت عليها.
ارتدادات مباشرة:
أما التنظيمات الإرهابية التي أعلنت مبايعة "داعش"، فترى أن العمليات العسكرية التي يتعرض لها الأخير في العراق وسوريا سوف تفرض تداعيات سلبية عليها، باعتبار أن أحد أهداف انضمامها إلى "داعش" من البداية يتمثل في الحصول على مساعدات من الأخير لتعزيز قدرتها على تنفيذ عمليات إرهابية نوعية في المناطق التي تنتشر فيها، فضلا عن أن تراجع قدرات هذه التنظيمات سوف يدفع بعض العناصر إلى الانشقاق والانضمام إلى تنظيمات إرهابية مناوئة لها.
ومن هنا، ربما يمكن تفسير اتجاه بعض تلك التنظيمات إلى توسيع نطاق عملياتها الإرهابية خلال الفترة الأخيرة، بالتوازي مع تصاعد حدة العمليات العسكرية ضد "داعش" في العراق وسوريا.
وفي ضوء ذلك، يُمكن القول إن المواقف التي أبدتها بعض التنظيمات الإرهابية تجاه التراجع التدريجي في قدرات تنظيم "داعش" داخل المناطق التي يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، بفعل العمليات العسكرية التي يشنها التحالف الدولي وبعض الأطراف الأخرى، كشفت بوضوح أن "المصالح" وليست "التوجهات الفكرية" تمثل المتغير الرئيسي في تحديد المسارات المحتملة للعلاقات بين تلك التنظيمات، وأن الخلاف القائم فيما بينها ينحصر في الحصول على أكبر قدر من المكاسب على المستويات المختلفة.